الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما هاجر إلى المدينة ولاقى من اليهود ما لاقاه، وجرأتهم على مشاقَّته وأذاه، بادر مكرهم بحسن الفكرة، وتدبيرهم بإيقاع التدمير.
فكان يقظاً حساساً لما يمكرون، ذا خبرة مستقاة من الوحي الرباني بما تجري به مؤامراتهم، يغمره الوعي بالواقع، والدراية بالحال، فأمكن منهم.
وأجهز عليهم في وقعات معلومات، كانت نتيجة لإثارة حمية الدين، إثر استفزاز للمسلمين أو انتهاك لحرمة المؤمنين.
ومن غزوات النبي -صلى الله عليه وسلم- لليهود ما سنتكلم عليه في هذه الوريقات، ألا وهي غزوة خيبر.
وقد حملت لنا أحداثاً جمةً، وأحكاماً مهمة، وسنسرد وفق الاستطاعة ما أمكن فيما يلي، ونترك بعض الأحداث خشية الإطالة:
أولاً تاريخ الغزوة:
كانت في أول السنة السابعة من الهجرة. عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله تعالى: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} (18) سورة الفتح، قال: خيبر.
وقال موسى بن عقبة: لما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الحديبية مكث عشرين يومًا أو قريبًا من ذلك ثم خرج إلى خيبر، وهي التي وعده الله إياه1.
الاستعداد لخروج الجيش:
أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالتهيؤ للغزو فهم مجدون، وتَجَلَّبَ من حوله يغزون معه، وجاءه المخلفون يريدون أن يخرجوا معه؛ رجاء الغنيمة فقالوا: نخرج معك.
-وقد كانوا تخلفوا عنه في غزوة الحديبية-، وأرجفوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وبالمسلمين، فقالوا: نخرج معك إلى خيبر؛ إنها ريف الحجاز طعاماً وودكاً وأموالاً.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد فأما الغنيمة فلا). وبعث منادياً فنادى: لا يخرجن معنا إلا راغب في الجهاد.
فأما الغنيمة فلا، فلما تجهز الناس إلى خيبر شق ذلك على يهود المدينة الذين هم موادعون لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعرفوا أنهم إذا دخلوا خيبر أهلك الله خيبر كما أهلك بني قينقاع والنضير وقريظة2.
خروج الجيش وقدوم أبي هريرة -رضي الله عنه-:
فلما خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- استخلف على المدينة سباع بن عرفطة، قال أبو هريرة -رضي الله عنه- قدمنا المدينة ونحن ثمانون بيتاً من دوس.
فقال قائل: رسول الله بخيبر وهو قادم عليكم، فقلت : لا أسمع به ينزل مكانًا أبداً إلا جئته، فتحملنا حتى جئناه بخيبر فنجده قد فتح النطاة وهو محاصر أهل الكتيبة، فأقمنا حتى فتح الله علينا3.
حادي الركب:
عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى خَيْبَرَ، فَسِرْنَا لَيْلًا.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ لِعَامِرِ بْن الْأَكْوَع: يَا عَامِرُ: أَلَا تُسْمِعُنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ؟ -والهنيهات جمع هنيهة وهي تصغير هنة أي من كلماتك أو من أراجيزك4- وَكَانَ عَامِرٌ رَجُلًا شَاعِرًا فَنَزَلَ يَحْدُو بِالْقَوْمِ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا *** وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فَاغْفِرْ فِدَاءً لَكَ مَا أَبْقَيْنَا *** وَأَلْقِيَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
وَثَبِّتْ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا *** إِنَّا إِذَا صِيحَ بِنَا أَبَيْنَا
وَبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ هَذَا السَّائِقُ؟) قَالُوا: عَامِرُ بْنُ الْأَكْوَعِ، قَالَ: (يَرْحَمُهُ اللَّهُ) قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: وَجَبَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَوْلَا أَمْتَعْتَنَا بِهِ، قال: فَأَتَيْنَا خَيْبَرَ فَحَاصَرْنَاهُمْ حَتَّى أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ شَدِيدَةٌ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَتَحَهَا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ مَسَاءَ الْيَوْمِ الَّذِي فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (مَا هَذِهِ النِّيرَانُ؟ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ؟)
قَالُوا: عَلَى لَحْمٍ، قَالَ: (عَلَى أَيِّ لَحْمٍ؟) قَالُوا: لَحْمِ حُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا). فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَوْ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا؟ قَالَ: (أَوْ ذَاكَ) فَلَمَّا تَصَافَّ الْقَوْمُ كَانَ سَيْفُ عَامِرٍ قَصِيرًا فَتَنَاوَلَ بِهِ سَاقَ يَهُودِيٍّ؛ لِيَضْرِبَهُ وَيَرْجِعُ ذُبَابُ سَيْفِهِ، فَأَصَابَ عَيْنَ رُكْبَةِ عَامِرٍ، فَمَاتَ مِنْهُ، قَالَ: فَلَمَّا قَفَلُوا -رجعوا- قَالَ سَلَمَةُ رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي، قَالَ: (مَا لَكَ؟)
قُلْتُ لَهُ: فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، زَعَمُوا أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (كَذَبَ مَنْ قَالَهُ، إِنَّ لَهُ لَأَجْرَيْنِ) وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ (إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ قَلَّ عَرَبِيٌّ مَشَى بِهَا مِثْلَهُ)5.
وصول الجيش الإسلامي:
عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَتَى خَيْبَرَ لَيْلًا، وَكَانَ إِذَا أَتَى قَوْمًا بِلَيْلٍ لَمْ يُغِرْ بِهِمْ حَتَّى يُصْبِحَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَتْ الْيَهُودُ بِمَسَاحِيهِمْ - جمع مسحاة وهي من آلات الحرث6- وَمَكَاتِلِهِمْ -جمع مكتل وهو القفة الكبيرة التي يحول فيها التراب وغيره7- فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ، مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ -أي والجيش-، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (خَرِبَتْ خَيْبَرُ إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ {فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ}(177) سورة الصافات8.
ولما دنا النبي -صلى الله عليه وسلم- وأشرف عليها قال: (قفوا) فوقف الجيش فقال: (اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية وشر أهلها وشر ما فيها، أقدموا بسم الله)9.
بعض الأحداث:
قال سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: (لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)، قَالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا -أي: يخُوضُون ويمُوجون فيمن يَدْفَعُها إليه10-، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا، فَقَالَ: (أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ).
فَقِيلَ: هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، قَالَ: (فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ) فَأُتِيَ بِهِ، فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي عَيْنَيْهِ، وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ فَقَالَ: (انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ)11.
وَخَرَجَ مَرْحَبٌ -أحد ملوكهم- فَقَالَ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ *** شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ
إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ
فَقَالَ عَلِيٌّ:
أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَةْ *** كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ الْمَنْظَرَةْ
أُوفِيهِمُ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَةْ
فَضَرَبَ رَأْسَ مَرْحَبٍ فَقَتَلَهُ ثُمَّ كَانَ الْفَتْحُ عَلَى يَدَيْهِ12. مما أثر سلبياً في معنويات اليهود ومن ثم هزيمتهم13.
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه:
من جميل ما وقع في هذه الغزوة: أنه كان رجل من الأعراب قد جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فآمن به واتبعه، فقال: أهاجر معك؟ فأوصى به بعض أصحابه، فلما كانت غزوة خيبر غنِم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا، فقسمه وقسم للأعرابي، فأعطى أصحابه ما قسمه له، وكان يرعى ظهرهم -ويحرسهم- فلما جاء دفعوه إليه فقال ما هذا؟ قالوا: قسمٌ قسمه لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخذه فجاء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فقال: ما هذا يا رسول الله؟ قال: (قسمٌ قسمتُه لك) قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أُرمى ها هنا، -وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت، فأدخل الجنة، فقال: (إن تصدق الله يصدقك).
ثم نهض إلى قتال العدو، فأتي به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مقتول فقال: (أهو هو ؟) قالوا: نعم. قال: (صدق الله فصدقه)، فكفنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في جبته، ثم قدمه فصلى عليه، وكان من دعائه له: (اللهم هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك، قتل شهيدًا، وأنا عليه شهيد)14.
وتوجه المسلمون إلى حصن الصعب بن معاذ بعد فتح حصن ناعم، وأبلى حامل رايتهم الحباب بن المنذر بلاء حسناً حتى افتتحوه بعد ثلاثة أيام، ووجدوا فيه الكثير من الطعام والمتاع، يوم كانوا في ضائقة، من قلة الطعام، ثم توجهوا بعده إلى حصن قلعة الزبير الذي اجتمع فيه الفارون من حصن ناعم والصعب بقية ما فتح من حصون يهود.
فحاصروه وقطعوا عنه مجرى الماء الذي يغذيه، فاضطروهم إلى النزول للقتال، فهزموهم بعد ثلاثة أيام، وبذلك تمت السيطرة على آخر حصون منطقة النطاة التي كان فيها أشد اليهود15.
الحصار وبنود الصلح:
ثم تحول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الكتيبة والوطيح وسلالم حصن كنانة بن أبي الحقيق الذي كانوا فيه، فتحصنوا أشد التحصن، وجاءهم كل فَلٍّ كان قد انهزم من النطاة والشق، فتحصنوا معهم في القموص وهو في الكتيبة، وكان حصنا منيعا.
وفي الوطيح وسلالم، وجعلوا لا يطالعون من حصونهم مغلقين عليهم حتى هم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينصب المنجنيق عليهم لما رأى من تغليقهم وأنه لا يبرز منهم بارز، فلما أيقنوا بالهلكة وقد حصرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعة عشر يوماً حتى أجهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب16، أرسل كنانة بن أبي الحقيق إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنزِلُ فأكلمك؟
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (نعم). فنزل ابن أبي الحقيق فتم الصلح بين الطرفين على الأمور التالية:
- بالنسبة للأراضي والنخيل -الأموال الثابتة-: دفعها لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أن يعملوا عليها ولهم شطر ما يخرج منها.
- أن ينفقوا من أموالهم على خدمة الأرض.
- أما بالنسبة لوضعهم القانوني فقد تم الاتفاق على أن بقاءهم بخيبر مرهون بمشيئة المسلمين، فمتى شاؤوا أخرجوهم منها.
- واتفقوا على إيفاد مبعوث من قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أهل خيبر ليخرص (أي يقدر ويخمن) ويقبض حصة المسلمين.
- وأما بالنسبة للأموال المنقولة فقد صالحوه على أن له الذهب والفضة والسلاح والدروع، ولهم ما حملت ركائبهم على ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً، فإن فعلوه فلا ذمة لهم ولا عهد، فغيبوا مسكاً لحيي بن أخطب، ثم اعترفوا بها.
- وبالنسبة للطعام فقد كان الرجل يأخذ حاجته منه دون أن يقسم بين المسلمين أو يخرج منه الخمس ما دام قليل17.
الشاة المسمومة:
أهدت يهودية للنبي -صلى الله عليه وسلم- شاة مَصْلِية، فأخذ الذراع فلما بسط القوم أيديهم قال: (كفوا أيديكم، فان عضوها يخبرني أنها مسمومة) ودعا اليهودية، فقال: (أسممت هذه الشاة؟) قالت: من أخبرك؟ قال: (هذا العظم) لساقها -وهو في يده- قالت: نعم، قال: (فما حملك على هذا؟).
قالت: قلت: إن كان نبياً فلا يضره، وإن الله سيطلعه عليه، وإن لم يكن نبياً استرحنا منه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما كان الله ليسلطك علي) فعفا عنها ولم يعاقبه18. لكنه قتلها بعد أن مات أحد أصحابه من أثر السم.
مقتل ابني الحقيق:
فقتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابني أبي الحقيق وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب، وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثو19.
السبايا والزواج المبارك:
وسبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صفية بنت حيي بن أخطب وابنة عمتها، وكانت صفية تحت كنانة بن أبي الحقيق، وكانت عروسا حديثة عهد بالدخول، فأمر بلالاً أن يذهب بها إلى رحله، فمر بها بلال وسط القتلى، فكره ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: (أذهبت الرحمة منك يا بلال؟).
وعرض عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإسلام، فأسلمت فاصطفاها لنفسه وأعتقها وجعل عتقها صداقها، وبنى بها في الطريق وأولم عليها، ورأى بوجهها خضرة، فقال: (ما هذا؟) قالت: يا رسول الله: أُرِيتُ قبل قدومك علينا كأن القمر زال من مكانه، فسقط في حجري، ولا والله ما أذكر من شأنك شيئًا، فقصصتها على زوجي، فلطم وجهي، وقال: تمنين هذا الملك الذي بالمدينة؟!
أم المؤمنين:
وشك الصحابة هل اتخذها سرية أم زوجة؟ فقالوا: انظروا إن حجبها فهي إحدى نسائه، وإلا فهي مما ملكت يمينه، فلما ركب جعل ثوبه الذي ارتدى به على ظهرها ووجهها، ثم شد طرفه تحته، فتأخروا عنه في المسير، وعلموا أنها إحدى نسائه، ولما قدم ليحملها على الرحل أجلَّته أن تضع قدمها على فخذه، فوضعت ركبتها على فخذه، ثم ركبت.
خوف الصحابة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
ولما بنى بها بات أبو أيوب ليلته قائماً قريباً من قبته، آخذاً بقائم السيف حتى أصبح، فلما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كبر أبو أيوب حين رآه قد خرج، فسأله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما لك يا أبا أيوب؟) فقال له: أرقت ليلتي هذه يا رسول الله، لما دخلتَ بهذه المرأة، ذكرت أنك قتلت أباها وأخاها وزوجها وعامة عشيرتها، فخفت أن تغتالك، فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال له معروف20.
تقسيم الغنائم:
وقسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيبر على ستة وثلاثين سهما، جمع كل سهم مائة سهم فكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم، فكان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين النصف من ذلك وهو ألف وثمانمائة سهم، لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- سهم كسهم أحد المسلمين، وعزل النصف الآخر وهو ألف وثمانمائة سهم لنوائبه وما ينزل به من أمور المسلمين21.
مقدم جعفر وأبي موسى -رضي الله عنهما-:
عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: بلَغَنا مخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم أحدهما أبو بردة والآخر أبو رهم في بضع وخمسين رجلاً من قومي فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، ووافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده.
فقال جعفر: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثنا هاهنا وأمرنا بالإقامة، فأقيموا معنا فأقمنا معه، حتى قدمنا جميعاً، فوافقنا النبي -صلى الله عليه وسلم- حين افتتح خيبر، فأسهم لنا، أو قال فأعطانا منها، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئاً، إلا لمن شهد معه، إلا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم22.
بعض وقائع وفوائد الغزوة:
سنذكر بعض الفوائد مما تقدم وأخرى لم نعرج على وقائعها ولكنها وقعت في الغزوة نفسها:
• فيها نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الغلول، كما وقع في قصة رجل قاتل وعاقبته أنه في النار، قال -عليه الصلاة والسلام-: (كَلَّا إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ).
• النهي عن أكل لحوم الحمر الإنسية.
• النهي عن وطء الحبالى من السبايا حتى يضعن.
• النهي عن نكاح المتعة.
• النهي عن النهبة من الغنيمة قبل قسمتها.
• بعض معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم- كما بصق في عيني علي -رضي الله عنه- فبرأ، وأخبرته الذراع أنها مسمومة.
• جواز المساقاة والمزارعة بجزء مما يخرج من الأرض.
• جواز خرص الثمار على رؤوس النخيل وقسمتها.
• جواز عقد المهادنة عقداً جائزاً للإمام فسخه متى شاء.
• جواز عتق الأمة وجعل العتق مهراً لها ويجعلها زوجة من دون إذن ولا شهود ولا ولي.
• جواز الأكل من ذبائح أهل الكتاب وحل طعامهم.
وغير هذه الفوائد كثيرة ولولا الإطالة في أصل القصة لكان ذكرها ممكناً، ولكن بهذا نكتفي والحمد لله رب العالمين.
1 السيرة النبوية لابن كثير: (3/344).
2 مغازي الواقدي: (1/634).
3 المغازي للواقدي: (1/637)، وزاد المعاد لابن القيم: (3/281).
4 فتح الباري لابن حجر: (12/18)، والنهاية في غريب الأثر لابن الأثير: (5/651).
5 صحيح البخاري: (3875)، صحيح مسلم: (3363) واللفظ للبخاري.
6 فتح الباري لابن حجر: (12/19).
7 فتح الباري لابن حجر: (الموضع السابق).
8 صحيح البخاري: (3876).
9 المستدرك على الصحيحين للحاكم: (1586) وقال: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وزاد المعاد لابن القيم: (3/283).
10 النهاية في غريب الأثر لابن الأثير: (2/348).
11 صحيح البخاري: (3888).
12 صحيح مسلم: (3372).
13 السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية: د. مهدي رزق الله أحمد: (2/54).
14 زاد المعاد: (3/283).
15 السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية: (55).
16 مغازي الواقدي: (1/669).
17 مغازي الواقدي: (1/672) بتصرف، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية: (2/59-60).
18 سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: (10/15).
19 زاد المعاد: (3/283) بتصرف.
20 زاد المعاد: (3/283).
21 زاد المعاد: (3/291).
22 صحيح البخاري: (2903).
المصدر: موقع إمام المسجد